
لم يكن المقهي بالنسبة لنجيب محفوظ مجرد مكان للمسامرة والمرح ولم يكن أيضا مجرد خلفية باهتة للمثقف المتأمل الحكيم
كان حياة كاملة اندمج فيها محفوظ مختلطا بنبضها فهو علي اية حال ليس سارتر المثقف الباريسي في علاقته بالمقهي وليس توفيق الحكيم المتأثر بالثقافة الغربية.. هو 'ابن بلد' داس الحياة بكل ما فيها واختار المقاهي وطنا دائما له ابتداء من مقاهي الحسين القديمة مرورا بقهوة عرابي ثم كازينو صفية حلمي بالاوبرا وكافيه ريش وسفنكس وركس والفيشاوي ولا باس وجروبي وعلي بابا وقصر النيل وصولا إلي الفنادق المغلقة التي اضطر إليها بعد واقعة الاعتداء عليه
مشاهد وأشخاص وأطياف تمر بذهنه وهو ينفث دخان سيجارته بأحد المقاهي فيحولها الي قصص وروايات متوهجة بالفن
الآن لو حاولت أن تتبع أثر نجيب محفوظ متجولا في مقاهيه الاثيرة سوف تصدم بكل تأكيد. ستكتشف أن عالمه قد زال تماما من أرض الواقع وإن كان سيبقي شامخا في ابداعه. فالقاهرة التي عاش بها محفوظ وارتاد مقاهيها مدينة أخري بعيدة تماما عن القاهرة التي نعرفها الآن وتكاد توشك علي الاختناق
تسربت المدينة القديمة ذات الطابع الكوزمو بوليتاني المنفتح من بين أصابعنا دون أن نشعر بها لنفيق علي أخري مختلفة تماما تلاشت منها أماكن محفوظ إلي الابد
فمقهي عرابي بميدان الجيش بالعباسية هدم وقام مكانه معرض للأثاث وكازيو صفية حلمي بميدان الاوبرا تحول الي مكتب للصرافة وتغيير العملات! أما ميدان الاوبرا نفسه والذي كان كل ركن فيه ينطق بالجمال والبهاء فقد تحول الي مكان خال من الروح كأن حريق الاوبرا الشهير قد أتي علي روح الاشياء فيه
مقهي سفنكس الشهير المواجه لسينما راديو أصبح محل 'أولاد يحيي' للأحذية ومقهي ركس بشارع عماد الدين تحول الي 'مصطفي علي' للأدوات الكهربائية أما عن جروبي ولاباس وعلي فلم تعد نفس الاماكن القديمة بل صارت أخري هجين مثل معظم الأشياء حولنا
منصورة عز الدين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق