
كيف استطاع نجيب محفوظ أن يصل بالرواية إلى هذه المكانة المهيبة والكبيرة؟ هو الموظف الحكومي الذي لم يتفرغ للأدب؟ كيف يحرز رجل غير متفرغ جائزة عالمية يعجز عن نيلها رجال متفرغون؟ كان نجيب محفوظ يلقن الأجيال الجديدة من الكتاب دروسه الأخرى. المقربون من محفوظ يذكرون انه نظم حياته بحيث تصبح الكتابة هي محورها. نظم الكتابة، وجعل لها وقتاً محدداً وقد عابه يوسف ادريس على ذلك. وجعل لكل رواية ملفاً، وجلس ساعات كل يوم لخوض معركة الكتابة. لم يعتمد محفوظ على موهبته فقط، بل اعتمد معها على جهده. وجعل شغله الشاغل أن يكتب. كانت الكتابة بالنسبة له هي الأصل والأشياء الأخرى هي التفاصيل. بدأ محفوظ بذلك يلقن دروسه في الكتابة لأجيال لا تعرف تفاصيل وعادات الكتابة والرواية. لم يعتمد محفوظ على الوحي الذي يهبط على الشاعر، إن صراعه يختلف فهو ليس شاعراً بل روائياً يواجه آلاف الصفحات الفارغة ويملأها ضجيجاً. هكذا أنتجت هذه الخبرة معنى الإخلاص للكتابة والولاء لها: لكن هذا درس واحد من دروس نجيب محفوظ الأخرى.
ما الدروس الأخرى؟
نجيب محفوظ ظل مثقفاً منحازاً للناس ولم يلوث حياته بعطايا السلطة وصدقاتها ومنحها ومقاعدها ووعودها وهداياها. ولا أحد يستطيع أن يتجاهل صعوبة الانسياب والانعطاف بعيداً عن رغبات السلطة وأهدافها في مجتمع تدور فيه صراعات شتى. ظل نجيب محفوظ زهاء قرن ذلك الموظف البسيط الذي يكتب عن الناس، ويتحاشى أن يكون أداة في يد احد. ظل حراً فيما يكتب بعيدا عن تأثير الأهواء الشخصية والرغبات والملذات الخاصة التي عصفت بالكثير من المواهب وحولتهم إلى ندل وخدم للسلطة، وفي أضعف الأحوال جعلت من كتاباتهم كذبة مستمرة متلونة لا صدق فيها ولا خيال. من ذلك كتب نجيب محفوظ تحت لهب النفس والروح الخلاقة الإنسانية التي تنشد إصلاح العالم والانحياز للخير والمنفعة العامة. كتب بدمه، وشعرنا بحرارة دمه على الورق، ونزف حزناً وألماً وفرحاً في حالات مختلفة. كانت مصر في أحشائه قبل كل شيء. وكان الناس دائه، وكانت الكتابة دواءه. ومثل المعري الذي بسط وقته للعلم والتأليف عاش زاهداً في الدنيا طالباً الكتابة. ربما هذا ما جعل من نجيب محفوظ شخصية تاريخية اجتمعت فيها شمائل كثيرة لم تلتق عند كاتب واحد
محمد عبد الملك
جريد ة الوطن البحرينية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق