
بضعة أمتار يخطوها نجيب محفوظ مستندا إلى ذراعي رفيقة عمره، أو إحدى ابنتيه في ممرات مستشفى الشرطة على نيل القاهرة، فيما أخبار الحروب والكوارث التى تصيب النفس بالكآبة، يقرؤها عليه يوميا من الصحف والمجلات حارسه الشخصي محمد فرحات. أطباء وممرضات، يتلصصون على نبض الجسد والروح لأشهر مريض فى مصر، فى مشهد يومي متكرر منذ مرضه ورقوده في الغرفة رقم 612 بالمستشفى، وذلك وسط حالة يغلب عليها الصمت والشرود يعيشها محفوظ «شيخ» الرواية العربية منذ أكثر من شهر، حيث يخضع للرعاية الصحية بعد تعثره وارتطام رأسه بالسرير في بيته المجاور للمستشفى
ولا يسمح بزيارة محفوظ في غرفته بالمستشفى، إلا للمقربين جدا منه، وهم زوجته وابنتاه والكاتب محمد سلماوي، ولوقت محدد، يستعيد معهم ذكرياته القريبة والبعيدة، ويضحك حين يداعبه أحدهم بقفشة. أما بنتاه فإنهما تقضيان الوقت في تلاوة القرآن الكريم عند فراشه، أو تنخرطان في اعداد انواع مختلفة من الطعام الخفيف المسلوق، الذي عادة ما يكون مخفوقا لسهولة هضمه. وحين زاره في المستشفى الأدباء جمال الغيطاني ويوسف القعيد وعبد الرحمن الأبنودي، وأخبروه بدعوات المحبين له خاصة من أهالي «حى الجمالية» حيث ولد وترعرع، وكان مسرحا لعدد من أهم أعماله الروائية، طلب محفوظ من الغيطاني أن يوجه الشكر لهم جميعا، وبعد فترة صمت ـ وكما يروي الغيطاني ـ قال لهم «نفسي أروح الحسين». وحين قرأوا له عناوين الصحف بدا متأثرا وحزينا، وقال «إيه الكارثة اللي في لبنان دي، المفروض العالم يتدخل لإيقاف المذبحة، هذه حرب غير متكافئة وضحاياها من الأبرياء». وصمت قليلا ثم كرر بصوت فيه نبرة حادة وغضب «دي كارثة بكل المقاييس». ولم يفلح الأصدقاء الثلاثة في تغيير مزاج محفوظ. وعند انصرافهم قال لهم بصوت قوي «ادعوا لي». ووسط حالته هذه يتذكر محفوظ طفولته وشبابه وأصدقاءه، ويستعيد صورة ثلة الحرافيش الأولى في أربعينيات القرن الماضي وهم يفترشون حشائش النيل بالجيزة، وينسجون أحلامهم الثقافية والأدبية والفنية التى غيرت الكثير من معالم الثقافة المصرية
القاهرة: جمال القصاص
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق